الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانٌ لِكَلِمَاتٍ ثَلَاثٍ، تُمَثِّلُ حَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ مَبَادِئِ دُعَاءِ رَبِّهِمْ وَتَنْزِيهِهِ، وَمَا يَدْعُونَهُ أَيْ يَطْلُبُونَهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِ تَعَالَى وَتَحِيَّةِ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ تَزَاوُرِهِمْ أَوْ تَلَاقِيهِمْ، وَمِنْ حَمْدِهِمْ لَهُ فِي خَوَاتِيمِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهِيَ خَيْرُ الْكَلِمِ وَأَخْصَرَهُ وَأَعْذَبَهُ. الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ وَالدَّعَاوَةُ فِي الشَّيْءِ وَالِادِّعَاءُ لِلشَّيْءِ، فَالدُّعَاءُ لِلنَّاسِ هُوَ النِّدَاءُ وَالطَّلَبُ الْمُعْتَادُ بَيْنَهُمْ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُمْ، وَالدُّعَاءُ التَّعَبُّدِيُّ لِلَّهِ نِدَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَالرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَهُ، الصَّادِرُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَالضَّرَاعَةِ لَهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلاسيما دَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، لِلْإِيمَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسَخِّرُ لَهَا وَالْهَادِي إِلَيْهَا، وَالْقَادِرُ عَلَى تَصْرِيفِهَا، وَعَلَى الْمَنِّ بِهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا، وَالدَّعْوَى لِلشَّيْءِ تَشْمَلُ فِي اللُّغَةِ تَمَنِّيَهُ وَقَوْلَهُ وَطَلَبَهُ مِنْ مَالِكِهِ، وَادِّعَاءَ مَلَكِيَّتِهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا لِلَفْظِ الدَّعْوَى تَصِحُّ إِرَادَتُهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَخِيرَ مِنْهَا. وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي الدُّعَاءِ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي الْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَإِنَّ الصِّيَامَ لَا يُسَمَّى دُعَاءً لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَأَعْظَمُ أَرْكَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ مِنْهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَكُلُّ دُعَاءٍ شَرْعِيٍّ عِبَادَةٌ، وَمَا كُلُّ عِبَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ دُعَاءٌ. وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسُهُ، وَكَلِمَةُ {اللهُمَّ} نِدَاءٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلُهُ يَا أَللَّهُ.وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ كُلَّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ، وَكُلَّ طَلَبٍ لِكَرَامَةٍ أَوْ لَذَّةٍ مِنْ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَهُوَ النَّعِيمُ الْجُسْمَانِيُّ، بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ، أَيْ تَنْزِيهًا وَتَقْدِيسًا لَكَ يَا أَللَّهُ، قِيلَ: أَوْ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَأَنَّ تَحِيَّتَهُمْ فِيهَا كَلِمَةُ: سَلَامٍ الدَّالَّةُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ النَّقْصِ وَالْآثَامِ، وَهِيَ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ التَّحِيَّةُ تَكُونُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} (33: 44) وَفِي سُورَةِ يس: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (36: 58) وَتَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (9: 73) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (16: 32) وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَدْخُلُونَ فِيهِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (13: 23 و24) وَتَكُونُ مِنْهُمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} (19: 62) وَفِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (56: 25 و26) فَإِنَّ اللَّغْوَ وَالتَّأْثِيمَ مِنْ شَأْنِ كَلَامِ الْبَشَرِ، فَلَمَّا نَفَى وُقُوعَهُمَا مِنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْيِهِ بِاسْتِثْنَاءِ كَلِمَةِ سَلَامٍ مُنْقَطِعًا، تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ سَلَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ عَامًّا يَشْمَلُهُ. وَالْجُمْلَةُ فِي آيَتِنَا: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} تَشْمَلُ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا، وَإِنَّهُ لَإِيجَازٌ بَلِيغٌ غَفَلَ عَنْهُ مَنْ نَعْرِفُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ.وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ لَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ آخِرُ كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ دُعَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ اللهَ تَعَالَى، وَمَطْلَبٍ يَطْلُبُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ وَإِكْرَامِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ ثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهَا. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الزُّمَرِ بَعْدَ آيَةِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (39: 74).وَآخِرُ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (39: 75).فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ- وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا لَهُ هُنَا بِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى- أَنْ يُمَثِّلَ لِنَفْسِهِ حَالَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، الْمُبَيِّنَةِ لِنَعِيمِهِمُ الرُّوحَانِيِّ بِلِقَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاجَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِمْ، وَلِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَلَائِكَتِهِ وَبَيْنَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعْظَمَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ رُوحَانِيٌّ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لَهَا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لَهَا بِالِاتِّكَالِ عَلَى التَّوَسُّلَاتِ بِأَشْخَاصِ الْأَوْلِيَاءِ وَالتَّمَنِّي لِشَفَاعَاتِهِمْ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (4: 123 و124) وَ{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (17: 72).وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: «إِذَا قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ- أَتَاهُمْ مَا اشْتَهَوْا مِنَ الْجَنَّةِ» وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ. فَالْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَخَدَمِهِمْ فِي إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا أَكَلُوا حَمِدُوا اللهَ تَعَالَى. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ أَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَمْ لَا. اهـ.
.التفسير المأثور: قال السيوطي:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم».وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: أهل الجنة إذا اشتهوا شيئًا قالوا: سبحانك اللهمَّ وبحمدك. فإذا هو عندهم فذلك قوله: {دعواهم فيها سبحانك اللهمَّ}.وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل رضي الله عنه قال: إن أهل الجنة إذا دعوا بالطعام قالوا: سبحانك اللهمَّ. فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم، مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى، فيأكل منهن كلهن.وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {دعواهم فيها سبحانك اللهمَّ} قال: يكون ذلك قولهم فيها.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: {سبحانك اللهمَّ} إذا مر بهم الطائر يشتهونه قالوا: سبحانك اللهمَّ، ذلك دعاؤهم به فيأتيهم بما اشتهوا، فإذا جاء الملك بما يشتهون فيسلم عليهم فيردون عليه، فذلك قوله: {وتحيتهم فيها سلام} فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا: الحمد لله رب العالمين. فذلك قوله: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن أبي الهذيل قال: الحمد أول الكلام وآخر الكلام، ثم تلا {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ}: مبتدأٌ و{سبحانَك} معمول لفعلٍ مقدر لا يجوز إظهارُه هو الخبر، والخبرُ هنا هو نفس المبتدأ، والمعنى: أن دعاءَهم هذا اللفظُ، فدعوى يجوز أن يكون بمعنى الدعاء، ويدلُّ عليه {اللهم} لأنه نداء في معنى يا الله، ويجوز أن يكون هذا الدعاءً هنا بمعنى العبادة، فدَعْوى مصدرٌ مضاف للفاعل، ثم إنْ شِئْتَ أن تجعلَ هذا من باب الإِسناد اللفظي أي: دعاؤهم في الجنة هذا اللفظُ، فيكون نفسُ {سبحانك} هو الخبرَ، وجاء به مَحْكيًا على نصبه بذلك الفعل، وإن شِئْتَ جَعَلْتَه من باب الإِسناد المعنوي فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظَ فقط، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جميع صفات التنزيهِ والتقديس، وقد تقدم لك نظيرُ هذا عند قوله تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58]، فعليك بالالتفات إليه.و{تحيَّتُهم} مبتدأٌ، و{سَلامٌ} خبرُها، وهو كالذي قبله، والمصدرُ هنا يحتمل أن يكونَ مضافًا لفاعله أي: تحيتهم التي يُحَيُّون بها بعضَهم سلامٌ، ويُحتمل أن يكونَ مضافًا لمفعوله أي: تحيتهم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلام، ويدلُّ له {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23].و{فيها} في الموضعين متعلقٌ بالمصدرِ قبله، وقبل يجوز أن يكون حالًا ممَّا بعده فيتعلَّقَ بمحذوف، وليس بذاك.وقال بعضُهم: يجوز أن يكون {تحيتهم} مِمَّا أضيف فيه المصدرُ لفاعله ومفعوله معًا؛ لأنَّ المعنى: يُحَيِّي بعضُهم بعضًا، ويكون كقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] حيث أضافَه لداود وسليمان وهما الحاكمان، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألةٍ أخرى وهو أنه: هل يجوز الجمعُ بين الحقيقةِ والمجازِ أم لا؟ فإن قلنا: نعم، جاز ذلك لأن إضافةَ المصدرِ لفاعله حقيقةٌ ولمفعوله مجاز، ومَنْ منع ذلك أجاب بأن أَقَلَّ الجمعِ اثنان فلذلك قال: لحكمهم.قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} مبتدأ، و{أن} هي المخففة من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الأمر والشأن حُذِف، والجملةُ الاسميةُ بعدَها في محلِّ الرفع خبرًا لها كقول الشاعر:و{أن} واسمُها وخبرها في محلَّ رفعٍ خبرًا للمبتدأ الأول. وزعم الجرجانيُّ أن {أن} هنا زائدة والتقدير: وآخر دعواهم الحمد لله، وهي دعوى لا دليلَ عليها مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويين. وزعم المبرد أيضًا أن {أن} المخففة يجوز إعمالُها مخففةً كهي مشددةً، وقد تقدم ذلك.وتخفيفُ {أن} ورفعُ {الحمد} هو قراءةُ العامة.وقرأ عكرمة وأبو مجلز وأبو حيوة وقتادة ومجاهد وابنُ يعمر وبلال بن أبي بردة وابن محيصن ويعقوب بتشديدها ونصبِ دال {الحمد} على أنه اسمُها. وهذه تؤيدُ أنها المخففةُ في قراءة العامةِ، وتردُّ على الجرجاني. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}قالتُهم الثناءُ على الله، وذلك في حال لقائهم. وتحيتهم في تلك الحالة من الله: «سلام عليكم» {وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}: والحمد هاهنا بمعنى المدح والثناء، فيثنون عليه ويحمدونه بحمدِ أبديٍّ سرمديٍّ، والحقُّ سبحانه يُحَييِّهم بسلامٍ أزليٍّ وكلام أبدي، وهو عزيزٌ صمديٍّ ومجيدٌ أحديٍّ. اهـ..التفسير الإشاري: قال نظام الدين النيسابوري:التأويل: {الر} فيه إشارتان: إحداهما من الحق المحق إلى حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال: بآلائي عليك في الأزل وأنت في العدم وبلطفي عليك في الوجود وبرحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد. والثانية من الحق لنبيه عليه السلام إليه يقول بإنسك معي حين خلقت روحي ولم يكن ثالث، وبلبيك الذي أجبتني به حين دعوتك للخروج من العدم فقلت: ياسين أي يا سيد فقلت: لبيك وسعديك والخير كله بيديك. وبرجوعك منك إلى حين قلت لنفسك بجذبه {ارجعي إلى ربك} [الفجر: 28] {تلك} أي هذه الآيات المنزلة عليك {آيات الكتاب الحكيم} الذي وعدتك في الأزل وراثته لك ولأمتك. والحكيم الحاكم على الكتب كلها فلا ينسخه كتاب وهو ينسخ الشرائع والأحكام والكتب كلها {إلى رجل منهم} لما رأى فيه رجولية قبول الوحي دون غيره، ويحتمل أن يكون معنى للناس الناسي عهد الله: {قدم صدق} محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أول من خرج من العدم إلى الوجود، أو هو العناية الأزلية «سبقت رحمتي غضبي» {لساحر مبين} صدقوا في أنهم مسحورون إلا أنه سحرهم سحرة صفات فرعون النفس. إن الذي يربيكم هو الذي خلق السموات سموات أرواحكم وأرض نفوسكم من ستة أنواع هي: الروح والقلب والعقل {يدبر} أمر السعادة والشقاوة يقلبه كيف يشاء.{إليه مرجعكم جميعًا} فرجعوا مقبولين بجذبات العناية التي صورتها خطاب {ارجعي إلى ربك} [الفجر: 28] وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله ونتيجتها عزوف النفس عن الدنيا واستواء الذهب والمدر عندها ورجوع المردودين بغير الاختيار بالسلاسل والأغلال. ومن نتائجه تعلقات الدنيا واستيلاء صفات النفس {بالقسط} أي لكل بحسب كماله ونقصانه. جعل شمس الروح ضياء يستنير بها قمر القلب إذا وقع في مواجهتها، وإذا وقع في مقابلة أرض النفس انكسف ولهذا سمي قلبًا لتقلب أحواله بين الروح والنفس. وتلك الأحوال هي منازله ومقاماته لتعلموا عدد سنين المقامات وحساب الكشوف والمشاهدات {إن في اختلاف} ليل صفات البشرية ونهار صفات الروحانية {وما خلق الله} في سموات الروحانية وأرض البشرية من الأوصاف والأخلاق وتبدل الأحوال {لآيات} دالة على التوحيد {لقوم يتقون} الأخلاق الذميمة {والذين هم عن آياتنا غافلون} وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها كالرهابين والبراهمة وبعض الفلاسفة والله تعالى أعلم. اهـ..تفسير الآية رقم (11): قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما أشير في هذه الآية إلى تنزهه تعالى وعلوه وتفرده بنعوت الكمال، ودل بختمها بالحمدِ على إحاطته وبرب العالمين على تمام قدرته وحسن تدبيره في ابتدائه وإعادته، اتبعت بما يدل على ذلك من لطفه في معاملته من أنه لا يفعل شيئًا قبل أوانه لأن الاستعجال من سمات الاحتياج.بل وروى أبو يعلى وأحمد بن منيع عن أنس- رضى الله عنهم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التأني من الله والعجلة من الشيطان» قال شيخنا ابن حجر: وفي الباب عن سهل وسعد- رضى الله عنهما- فقال تعالى عاطفًا على قوله: {يدبر الأمر} ما معناه أنه تعالى يفعل فعل من ينظر في ادبار الأمور فلا يفعل إلاّ ما هو في غاية الإحكام، فهو لا يعاجل العصاة بل يمهلهم ويسبغ عليهم النعم وهم في حال عصيانهم له أضل من النِّعم يطلبون خيراته ويستعجلونه بها: {ولو يعجل الله} أي المحيط بصفات الكمال {للناس} أي الذين اتخذوا القرآن عجبًا لما لهم من صفة الاضطراب {الشر استعجالهم} أي عاملًا في إرادته لإيقاع الشر بهم مثل عملهم في إرادتهم وطلبهم العجلة {بالخير لقضي} أي حُتم وبت وأدى، بناه للمفعول في قراءة الجماعة دلالة على هوانه عنده، ولأن المحذور مجرد فراغه لا كونه من معين.
|